مدة القراءة

5 دقائق

هل الحقيقة مطلقة أم نسبية ؟

24716 قراءة

الحقيقة نسبية!! كثيراً ما نقرأ أو نردد هذه الجملة، والعديد من النقاشات والجدل حولها، خاصة في نقد هذه الجملة. لكن دعنا نبدأ بالاتفاق على بعض التعريفات حتى لا نتحدث عن نفس الموضوع بتعريفات مختلفة.

أولاً: دعنا نتفق أن هناك ما يُسمى “واقع“، هو ما نود دائماً قياسه أو وصفه، وهو ما عليه الشيء فعليًا.

ثانياً: فلنُطلق على قياسنا للواقع “حقيقة“، بحيث يكون معنى “حقيقة ما” هي محاولة لوصف وقياس الواقع.

ثالثاً: الحقيقة المطلقة هي الحقيقة (القياس) المطابقة تمامًا للواقع.

بما أننا جميعاً نحاول قياس الواقع ونخرج بما أسميناه “حقيقة”، فليس لدينا ما يقول ما هو “الواقع” فعلياً بنسبة 100%، لكن لدينا مجموعة من الحقائق التي حاولنا بها قياس الواقع. قد تكون هذه الحقائق مختلفة بل ومتعارضة مع بعضها.

على سبيل المثال: البعض يرى أنني مُتواضع، والبعض الآخر قد يرى أنني مُتكبر … هذه حقائق (قياسات) مختلفة لدرجة أنها متعارضة، تم القياس في كلا الحالتين بناءًا على مواقف معينة وتم الخروج منها بهذه القياسات، ولكن “واقع الأمر” قد يكون أنني: متُواضع، أو مُتكبر، أو مزيج من الصفتين! القياسات تكون حسب ما وجده مَن يقيس لكنها لا تعبر حتمًا عن الواقع، فالواقع في ذاته قد يختلف عن قياسنا، وقد يكون قريب من القياس، وقد يكون عكسه تمامًا! ولكن مَن يعلم بالفعل “هل أنا مُتواضع أم مُتكبر؟” فعليًا لا أحد … بالطبع هذا مثال بسيط جداً.

فإذا أردنا معرفة هل قياسنا مطابق للواقع أم لا، فهذا يكون عندما نخرج خارج حواسنا التي تقيس الواقع لنرى الواقع ذاته ونقارنه بما قامت به حواسنا ونقلته إلى عقلنا لنفهم جزء من الواقع. وبما أن هذا مستحيل أن يحدث لذا ليس لدينا أن نعرف الواقع كما هو، بل نعرف جزء منه (وقد لا نعرفه تمامًا)، ولن يتبقى لنا إلا الشك.

لذا من المنطقي القول بأن “الحقيقة نسبية” وهذا نعني به أن قياسنا للواقع غير كاملًا، فالواقع في ذاته مطلق، لكن قياسنا له نسبي، يختلف بقدر ما نقلته حواسنا إلى عقلنا عن الواقع. وعندما نقول “لا توجد حقائق مطلقة” أي أنه لا توجد حقيقة مطابقة “تماماً بنسبة 100%” للواقع، وذلك لاستحالة معرفة الواقع مباشرة والوقوف خارج حواسنا لإدراكه.

وهنا تأتي المعضلة الكبرى:
” الحقيقة نسبية…”  وبما أن “الحقيقة نسبية” هي في حد ذاتها حقيقة (كمحاولة لقياس الواقع) … لذلك فهي نسبية وغير مطلقة (أي أنها غير مطابقة تماماً للواقع)، حينها قد توجد حقائق مطلقة!
بطريقة أُخرى: “لا توجد حقائق مطلقة”… إذًا جميع الحقائق نسبية فعلًا… إذاً هذه الحقيقة (أن الحقيقة نسبية) مطلقة! … لكننا نرى الآن حقيقة مطلقة وهي أن الحقيقة نسبية! لذا يظهر لنا أن هذه الجملة تهدم نفسها …

هذه المعضلة شبيهة جداً بـ “معضلة الكاذب” وهي:
شخص يقول لك ” أنا أكذب“، فهل تعتبر ما يقوله صدق أم كذب؟
إن اعتبرت ما يقوله “صدق”، فكيف تُصدّق كاذباً؟!!
وإن اعتبرت ما يقوله “كذب”، إذاً هل هو غير كاذب؟!!

 

دعنا نأخذ استراحة قصيرة ونعيد ما قولناه بتلخيص …

 

اتفقنا حتى الآن أن الحقيقة هي قياس للواقع، وأن الحقيقة المطلقة هي المطابقة تماماً للواقع، وأن الحقيقة النسبية هي التي قد تكون قريبة من الواقع أو بعيدة أو لا نعرف مدى قربها من الواقع لأنه ليس لدينا ما يساعدنا لمعرفة الواقع نفسه. ثم انتهينا بالقول بأنه ظاهرياً نرى أن مقولة “الحقيقة نسبية” تهدم نفسها. قد قابلتني هذه المعضلة لأول مرة منذ أربع سنوات، عندما كنت أقرأ “برهان يتطلب قرار” لـ جوش ماكدويل، وهذه كانت أول مرة أفكر في هذه النقطة، وظلت تلك المعضلة تتحدى بقوة الاعتقاد بنسبية الحقيقة.

إلى أن قابلتني هذه الجملة:

” تعتمد الفلسفة الهندية على الكشف وسيلةً إلى معرفة المطلق وعلى الفكر وسيلةً إلى معرفة النسبي. فالفكر والمعرفة الفكرية لا يكفيان. فعلى الرغم من أن الفكر لا يخطئ كليًّا، لكنه لا يكفي. فلكي يعرف الإنسانُ الحقيقةَ عليه أن يحظى باختبارها فعليًّا.” [1]

كانت الكلمات السابقة هي أول ما ساعدني للتفكير أكثر في هذه النقطة بعد أن أشارت بوجود حقيقتين:

 الأولى عقلية، والأخرى هي تلك القابلة للكشف أو التجربة. بغض النظر عن قول الفلسفة الهندية أنها قد تصل إلى الحقيقة المطلقة، لكن هذا لا يُغيّر أن هذه الكلمات ساعدتني لاكتمال الصورة.

فعندما نقول “الحقيقة نسبية”، فهل نتحدث عن “الحقيقة العقلية فقط” أمالحقيقة القابلة للتجربة” ؟؟؟

* اعتقاد شخص بأن الديانة س صحيحة.
الاعتقاد الديني حقيقة عقلية فقط، حيث أن الأفكار الدينية ذاتها غير قابلة للتجربة، لذا اعتقاده بأنها الحق المطلق أعتقد أنه خاطئ (دون الخوض في المعجزات لأن العديد من المؤمنين بأديان مختلفة لديهم مَن يحدث لهم معجزات).

* اعتقاد شخص بأن جميع البشر يموتون، هل هذه حقيقة مطلقة ؟؟
هنا يمكننا التحدث، في البداية يظهر أنه علينا أن نجيب على السؤال السابق بـ “نعم”، لأننا بالفعل نرى جميع الناس يموتون، وأن هذه حقيقة قابلة للتجربة. لكن دعنا نرجع لتعريف “الحقيقة المطلقة” وأنها ما هو مطابق للواقع 100%، فحتى وإن اتفقنا على شكل الحقيقة لكننا لا نتفق على معناها ولا نعرف فعلياً ما هو “الموت”، فهي حقيقة قابلة للتجربة لكنها ليست كاملة، لأننا لا نعرفها 100%، نعرف جزء منها وهو أقرب إلى الواقع وهو أن “الجميع يكون معنا ثم يرحلون” ولا نعلم هل هو يرحل إلى الفناء؟ أم يرحل إلى الحساب بحسب الأفكار الدينية؟ أم يرجع مرة أخرى للحياة (تناسخ الأرواح)؟؟ لذا فهي حقيقة أقرب إلى الواقع، لكنها غير مطلقة، لأنها غير كاملة.

* ولكن هل هذا يحل معضلة ” الحقيقة نسبية ” ؟؟؟؟

بالتأكيد، لأننا غيّرنا مفهومنا إلى أن: “الحقيقة العقلية نسبية، و الحقيقة القابلة للتجربة تكون أقرب إلى الواقع“. وبما أنه يمكن اعتبار نظريتنا هذه قابلة للكشف والتجربة، مما نراه حولنا من اختلافنا على الحقائق العقلية فقط واتفاقنا على الحقائق القابلة للتجربة التي من الممكن أن تكون أقرب إلى الواقع، لذا يمكنا أن نقول أن نظريتنا ليست مطلقة لكنها أقرب إلى الواقع …

أتوقع من يَقول: ولكن هذا ليس حلاً للمعضلة! لأن نظريتنا مازالت غير مُطلقة.

ردي بسيط جداً: ما هو الشيء المُطلق في حياتنا؟؟

فمثلًا: الحقيقة الأعظم ( 1 + 1 = 2 ) هل هذه حقيقة مُطلقة!؟ أعتقد لا، لأننا انطلقنا من اتفاقنا على مدلول الـ ” 1 ” و ” + ” و ” = ” و ” 2 ” .. ولكن لو اتفقنا على أشياء أخرى سنظن أنها مطلقة الصحة أيضاً، وعلى سبيل المثال ( 1 + 1 = 10 ) كما في النظام الثنائي  Binary System.

وإذا كان أمامنا “تفاحة” و “تفاحة أخرى”، قولنا “أمامنا تفاحتان” حقيقة غير مطلقة!  لأننا ليس لدينا معيار التفاحة الكاملة لنقول أن هذه تفاحة وأن هذه أيضاً تفاحة مثلها تماماً، لنقول أنهما تفاحتان. كما أنه لا يوجد شيئان متطابقان تماماً بنسبة 100%، فشكل التفاحة لا يمكن أن يكون مُطابق تماماً للأخرى، ووزن التفاحة الأولى لا يمكن أن يكون نفس وزن التفاحة الأخرى، هذا أصلاً إن كان لدينا وسيلة ما لتقول لنا ما هو الوزن بصورة مطلقة !

فإن قمنا بوزن التفاحة الأولى على ميزان معين و كان الوزن 100 جرام، ثم استخدامنا جهاز أكثر حساسية سيكون 100.4 جرام، وبجهاز أكثر حساسية سيكون 100.43 جرام، وبجهاز أكثر حساسية أيضًا 100.4342785 جرام، و بجهاز أكثر حساسية جداً سيكون أيضاً هناك أجزاء من الوحدات الصغيرة جداً مثل ” nano – pico – femto ” ، هذا يعني أننا لن نصل لقياس وزنها بدون أي نسبة خطأ، ثم بعد ذلك نزن التفاحة الأخرى التي أيضاً لن نصل إلى وزنها بصورة مطلقة أيضًا، وأخيرًا لن يكون الوزن متماثلًا! ثم نأكل التفاحتين ونكمل الحديث …

لذا فليس لدينا ما هو “مطلق”، لدينا ما هو مقبول أو أقرب إلى الواقع أو أقرب كثيراً إلى الواقع. حتى كلامي هذا غير مطلق، فهو قد يكون أقرب إلى الواقع، لكنه غير مطلق. وأبسط سبب لذلك هو أن اللغة نفسها التي أستخدمها غير قابلة لتوصيف الواقع كما هو، بل نتفق على بعض التعريفات ونقط البداية محاولين معرفة الواقع ونصل إلى ما نسميه “الحقيقة “.

الخلاصة: الحقيقة العقلية الغير قابلة للتجربة نسبية، والحقيقة القابلة للتجربة قد تكون أقرب إلى الواقع.

_________________________________________
[1] إبراهيم الزيني، تاريخ الفلسفة، مكتبة كنوز، القاهرة، 2011، ص58