مدة القراءة

5 دقائق

حتي يحضر المشروب

1727 قراءة

(( حتي يحضر المشروب ))

 

تذهب الموزز لمن لا يستحق ..

كانت هذه لازمة صديقي العازب الذي أقدم علي مرحلة الزواج فيما لايقل عن خمسة عشر مرة ولم يوفق في احداها . فكلما كان يتقدم لفتاه لم يحدث سوي أثنتين .. إما أن تعجبه الفتاه ولا يعجبه ظروفها ؛ن حيث بيئتها المتدنية أو المرتفعة التي يشعر بأنها تفوقه ولاتتناسب معه .. وإما أن لايُعجب بها رغم إعجابه بنشأتها وبوالديها ، فهو له مواصفات في شريكة حياته مثل أى رجل ، ولكنّه لايرضي بأن تخلّ شريكته في واحدة من شروطِه .

 فمن ناحية الجمال ، فلايُريد أن تقلِّ علي الأقل عن نسبة مئة بالمئة ، أما بالنسبة للتربية والخُلق ، فلايطمح في أكثر من أن تكون متدينة تعرف الله حق المعرفة حتي ترعاه فيه ، لابد أن تتمتع بالخُلق الذي يتمناه أي رجل .. من حيث الأدب والحياء والطاعة العمياء لزوجها ، فلا تعترض ولا تجادل ، وتفعل مابوسعها لإرضاء زوجها ، وأنه من الأفضل أن يوجد فارقاً في العمر بين الزوجين .

فى رحله عنائه وشقائه فى البحث عن شريكه حياته ، التى لايعلم أحد سواه ماهى ملامحها ولا مواصفاتها المرسومة على جدران خياله ، والتى لم يجدها فى محاولة بحث استغرقت أكثر من ستة اعوام نُقِل فيها من العهد العشريني إلي العهد الثلاثيني ، لم يتنازل خلالها عن واحدة من متطلباته المرجوة ، ولم يرضى بغيرها بديل .

اتصلت به زميلة كان يعمل معها سابقاً وهى من ضمن العشرات اللاتي أوصاهم فى البحث معه عن عروس مناسب له ، رد عليها فى يأس ؛ وذلك لتكرار عدم التوافق بينه وبين العرائس التى رشحتها له سابقاً ، سمعها تقول :  ” وجدتها .. لقيت إللي تعبت تفكيرك ” ، انتفض قلبه من الفرحة وأضأت الدنيا حوله بنور الأمل ، وملاءت الإبتسامة وجهه العبوس وسألها بصوتٍ متهدج : فين دي ؟ قالت له انها بنت احد أقاربها من بعيد ، ولم تذكرها له من قبل لأنها لم تراها منذ زمن بعيد ، حتى رأتها أمس فى مناسبة عائلية ، ووجدت بها كل مواصفات شريكة حياته فلم تتردد لحظه فى أخذ ميعاد من أهلها .
فقال : ..  ؟ . قالت له أنه غداً ، وأعطته العنوان ورقم شقيق العروس حتى يتصل به إن لم يستطع الوصول للمنزل ، وشدّدت عليه بأن لا يتأخر عن الميعاد المحدد وقبل أن تنتهى المكالمة تأكد من زميلته بإبلاغ العروس وأهلها بظروفه المادية والإجتماعية حتى لايقع فى حرج عند مقابلتهم كما حدث من قبل ، طمأنته من هذه الناحية لأنها ابلغتهم بذلك فى بداية الحوار معهم،وقالت  له : انها أمور شكليه ولا تفرق معهم بالمرة ، وأنهت المكالمة .

 اطمأن قلبه وشعر أن حلمه قرب تحقيقه ، جهَّز ملابسه مرتدياً أفضل مالديه ، وفى طريقه إلى المواصلات تذكّر العنوان وأنه فى المقطم وهو لم يذهب المقطم قط ولا يعلم مواصلاتها ، سأل أحدالسواقين فى الموقف فأدلَّوه على المواصلات التى يركبها ، وبالفعل ذهب .

 الطريق مزدحم والعربة التى يركبها تكاد لا تتحرك من كثرة الإزدحام ، وهو فى حالة ضيق ويتمنى لو أن يطير حتى يصل بسرعة لحلمه الذى طال إنتظاره ،  ينزل من سيارة ويركب أخرى وينزل من الثانية ويركب الثالثة حتى يصل الى المقطم التى أصبحت بالنسبة له أبعد من يثرب .. أصابته حاله من الذهول لجمال المكان وروعته الخلابة ورقى وفخامة مبانيه التى لم يخطر بباله انها بهذا المنظر ، فكان إخالها صحراء !  وجد نفسه وحيداُ فى المكان ولا يوجد من يدلّه على المنزل ، أخرج التليفون من جيبه وأتصل بشقيق العروس  الذي أخذ رقمه من قبل من زميلته ، وأبلغه المكان الذى يقف فيه حتى يأتى ويأخذه .

 لم يمر كثيراً من الوقت وأتت سيارة مرسيدس موديل السنة لم يرى لها مثيل من قبل تتهادي على الجانب الأخر من الطريق ، نظر إليها فى خوف وترقب من أن ينزل منها شقيق العروس ، وقفت السيارة ولم ينزل منها أحد ، ظلَّ يرمقها خِلسة متمنياً عدم صواب ظنه ، فهولايريد أن يقع في هذا الموقف المُحرج ، وهو وجود فارق في المستويات المادية والإجتماعية بينه وبين من ينوي خطِبتها ، قطع عليه تفكيره وظنونه فَتح باب المرسيدس ونزول شاب في أوائل العشرينات منها ، ينظر إتجاهه ويُلوَّح بيده ناحيته ، نظر يميناً ويساراً فلم يجد غيره بالطريق ، فهو المقصود بالفعل ، إختلجت أنفاسه وراوده تفكيره بأن يجري بعيدً أو يوقف أية تاكسي ويفرِّ من هذا المصير المحتوم نهايته ، ولكنه تذكر سريعاً زميلته ، فعدَل عن فكرته الطائشة وعبر الطريق وصافح الشاب المنتظر وركب بجانبه دون أن ينبس بكلمة .

هذه المرة الأولي له في أن يطيء سيارة مثل هذه المركبة التي وصفها بأنها أعلي من أن تكون سيارة وأقل من أن تكون طائرة ، فهي نوعٌ ثالث بينهما   !

سلَكت السيارة طريقٌ تترامي علي جانبيه قصورٌ أشبه بالقصور التي نراها في أفلام الكارتون أو الأفلام الأجنبي المُصنّعة بتقنية عالية من  ” الجرافيكس ؛الثري دي ” لذوقها وحُسن صُنعها ، ولكنها أثارت في نفسه ضيقٍ وريبة ، حتي إقتحمت السيارة بوابة كبيرة إلكترونية ، تتقدم قصراً لا يقل بهاءً وفخامة عن سابقيه ، إلي أن ربضت أمامه مباشرة ، نزل الأثنين وسبقه شقيق العروس في الدخول وهو خلفه مُرتعد الأوصال .

إزداد إرتباكاً عندما وجد بانتظاره عدد غفير من أقارب العروس ، علي خلاف أية زيارة مرَ بها من قبل ، فكان الأبوين وبرفقتهم ذوييهم من الأخ والأخت ومَن علي قيد الحياة من والديهم ، فضلاً عن أخوة العروس ، فكانت صالة الإنتظار مكتظة بالمعازيم وكأنه حفل خطوبة ، صافح كل من سبق ذكرهم فرداً فرداً ثم جلس علي الكرسي الذي أشار إليه والد العروس ، وكأنه كرسي الإعتراف ، فكانت كل الرءوس تطالعه بإهتمام ؛ وكأنه سيفضي بمعلومات في غاية الأهمية .

من واضح الأمر أنهم من طبقة أرستقراطية ، فضلاً عن القصر الذي يقطنوه ، كل ما كان يشغل تفكيره كيفية الخروج والفرار من هذا المأزق الذي ألقته زميلته فيه ! فلو يراها الأن لحطّم أنفها ، فهم علي كل الأحوال لا يتناسبون سواءً من الناحية المادية أو الناحية الإجتماعية ، فمن الأفضل التملُّص بصورة لائقة ، هذا ماإستقرََّ عليه في قرارة نفسه ، دون أن يمنح نفسه فرصة للبدء في الأمر، فكيف يتم ذلك ؟! وكيف يتسني له ذلك قبل أن يحضر المشروب ؟!

كل هذه ا لأفكار كانت تراوده طوال الجلسة المليئة بسيلٍ من الأسئلة التي لم يخلو بعضها من الخوض في أمقت شيء بالنسبة له وهو الحديث عن بعض الخصوصيات الشخصية والإجتماعية ؛ كمعرفة مهنة الوالد والوالدة ، وما هو راتبه الحالي . تحمَّل كل هذه النذاقات ريثما يأتي المشروب الذي سوف يتناوله جرعة واحدة إن حضر ، ثم يفِرّ بصورة غير مُهينة له ولزميلته ، ولكنّ المشروب تأخر وإذا إنصرف قبل حضوره سيُعرض زميلته للإحراج قبله ، وسوف تتنحي عن مساعدتها له .

مرَّت دقائق معدودة كانت علي قلبه أثقل من السير علي كوبري ستة اكتوبر في نهار رمضان ، ولا زال بوجهه حمُرة كادت دماؤه تنضح منه ، من كثرة الخجل ونظرات الجمع له . ما إن سمع وقع خطوات تقترب من مجلسهم ، رُدت إليه روحه المفقوده ، ألقي نظرة علي القادم في تلصُص ، فوجدها مَن أُقيم المجلس من أجلها ، فهي أخر أملٌ قد يغير من مسار الأحداث القادمة ، تأتي وتتعثَّر خطواتها من الخجل ، ناظرة إلي الأرض ، لم تطرف عينيها نحوه ولم تتضح ملامحها له . بإشارة من يد والدها جلست في الكرسي المقابل له حتي يتسنَّي رؤية بعضهما لبعض جيداً ، وما إن جلست ونظرت له في إستحياء ، تأكد المسار الذي شرع فيه قبل قليل في قرارة نفسه ؛ الفرار ، فهي ليست الشخص المطلوب !! .

إزداد حَرَجه وتوتره بعدما أجلست ولم يحدث الوفاق؛ الخيط الضعيف المحتمل . وكذلك المشروب الأحمر المتوقع تقديمه في مثل هذا الظرف لم يحضر ، وتعقَّد الأمر وصعوبة فرصة الهروب . وكأن السكون الذي خيَّم علي المجلس أوشي بما هو غير مرغوب ، فقد ظنّوا أنه دليلاً علي القبول من الطرفين ، فأسرعت الوالدة إلي المطبخ وعادت وبصحبتها الخادمة تحمل صينية عليها المشروب المنتظر والمخلص والمريح من هذه الجلسة التي طال أمدها .. وما إن وضعت الصينية علي الطاولة المقابلة له ، وأعطاه جدها أحده ” جزاه الله خيراً ” عبّه جرعةً واحدة وكأنه يشرب خمراً ، ثم نظر لساعة يده وقام فجأةً من مجلسه كمن تذكر شيءً ، واستأذنَ بحِجّة موعدٌ هامٌ لديه . وخرج علي عجلةٍ والعرق يتصبب من جبينه دون أن يكترث بباقي الحضور .