مدة القراءة

4 دقائق

إخوان الصفا : تأملات فلسفية حول تطوّر النباتات (الجزء الأول)

2477 قراءة

قد ذكرنا في المقدمة الخاصة بهذه السلسلة و التي كانت بعنوان “ تطور التطور في الشرق القديم ” بعض التوضيحات، التي يجب عليك الاطلاع عليها حتى تتمكن من فهم ذلك المقال وغيره من المقالات القادمة ..
سنتحدث اليوم كما ذكرنا سلفاً عن أخوان الصفا , تلك الجماعة التي أثارت جدلاً واسعاً بين الباحثيين و الفلاسفة على مر العصور السابقة و التي لم يتم تحديد أسماءهم و لا حتى الزمن الفعلى الذي وجدوا فيه بشكل قاطع حتى يومنا هذا، و هذا ما سنسرده في عجالة في مقدمة عن تلك الجماعة قبل البدء في الحديث عن محور مقالنا اليوم و هو كيف رأوا التطور .
 

يرجع صعوبة البحث عن أعضاء تلك الجماعة الى السرية و الكتمان التى كانت هي السّمة الرئيسية لتلك الجماعة، و ذلك خوفاً من الاضطهاد الذي مارسته السلطة العباسية عليهم وقتها.

بالرغم من القول بأن تلك الجماعة قد ظهرت في العراق الا أنهم قد أثروا في الفكر الإسلامي غربه و شرقه، كما ذكرنا انه لما يتم تحديد زمنهم بشكل قاطع، هناك أراء كثيرة في تحديد زمن نشأتهم، فهناك من يرى أنهم نشأوا في القرن الثالث الهجري تحديداً في منتصف القرن الثالث, ومن يرى أنه القرن الرابع، أو منتصف القرن الرابع، و هناك من يرى أنه قبل هذا بكثير .

الجدير بالذكر استخدام إخوان الصفا لغة خاصة بهم، تتم المراسلات الدائرة بين الدعاة و مركزهم الرئيسي، و هذا ما ورد في الرسالة الجامعة “ و رأينا ان نكتب ما نريده .. بحروف ركبناها و بكلمات نظمناها “(١)، و قد أثبت إخوان الصفا شكل حروف هذه اللغة في الرسالة الجامعة و هي تختلف عن الحروف العربية في الشكل و لكنها نفس الأبجدية، أما بالنسبة لكلمات تلك اللغة و مفرداتها فلا نعرف عنها شيئاً، فهي بكل تأكيد لم تدوّن في كتبهم المتداولة .
 
و لإطلاع تلك الجماعة على ثقافات عدة و انفتاحهم و تقبلهم لجميع الآراء الكثير من الإيجابيات بالطبع، فعلى سبيل المثال بالرغم من التضييق عليهم في زمنهم الا ان عند خروح أحدهم من تلك الجماعة كان العقاب مجرد عقاب تأديبي ليس الا و ذلك ذُكر في رسائهم بشكل واضح “ و قل له قولاً ليّْناً وعظه عظة المؤنس له، فإن تاب و أناب فهو على ما تريده منه “، و ان آبى “فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته، و نتبرأ من ولايته، و لا نستعين به في أمورنا، ولا نعاشره في معاملتنا، ولا نلكمه في علومنا، و نطوي دونه أسرارنا، و نوصي بمجانبته إخواننا“(٢)
اشتملت رسائل إخوان الصفا الضخمة على أغلب فنون الثقافة المعروفة في عصرهم، و التي كان عددها ٥٢ رسالة، و لعل ما ميز تلك الرسائل هي الرمزية في كتابتهم لتلك الرسائل، فقد استخدم إخوان الصفا الكثير من القصص التي كان لها مغزى أخلاقي و نقد سياسي، و ترّد أغلب هذه القصص على لسان الحيوانات فقد وجد إخوان الصفا في هذا اللون من التعبير حماية لأنفسهم في حملتهم على الأوضاع الإجتماعية و السياسية، و يمكنك الإطلاع على تلك القصص بالتأكيد من خلال قراءة رسائلهم.
التطوّر لدى اخوان الصفا : 

التطوّر لدى إخوان الصفا ينشد غاية و هدف، وهو ليس تطوراً عشوائياً، لكل كون و نشوء غاية أولاً و ابتداء، و له غاية و نهاية إليها يرتقي، و لغايتها ثمرة تجتنى، و هم لديهم دائماً غاية بعيدة أكثر ترتيباً و تعقيداً تنزع إليها الموجودات جميعاً، أي أنها تبدأ بما هو جزئي لتنتهي إلى ما ذلك الكلي، أي تبدأ من البسيط لتنتهي إلى المعقد، و الموجودات الجزيئة دائمة في الكون متوجهة إلى أتم الوجود، ومن أدون الأحوال مترقية إلى أشرفها أتمها، وهذا التطور لكي يصل إلى غايته المنشودة ينبغي له من عامل الزمن الذي يعمل عمله في الموجودات تبتدئ(الكائنات) من أنقص الحالات و أدونها إلى أتمها و أفضلها، ويكون ذلك في مر الأزمان و الأوقات، و يقولون أيضاً الأمور الطبيعية أُحدثت و أُبدعت على تدريج ممر الدهور و الأزمان، و ذلك أن الجسم المطلق قد أتى عليه دهر طويل إلى أن تمخض و تميز اللطيف منها من الكثيف، وإلى أن قبل الأشكال الكرية الشفافة و تركيب بعضها جوف بعض، وإلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة و ركزت مراكزها، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة و ترتبت مراتبها و انتظمت نظامها.

يؤمن إخوان الصفا بفكرة الشمول في العقيدة بحيث تشمل الفكرة جميع الأديان، فهم أيضاً يؤمنون بمبدأ وحدة الوجود، لذا فالعالم لديهم جسم واحد بجميع أفلاكه و أطباقه و سماواته وأمهات أركانه و مولداتها، عن نفس واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمه، كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده.
و كان لهم وجهة تفسيرات غير التي كانت موجودة في زمنهم عن مفهوم ( السموات و الأفلاط )، فمثلاً يقولون بأن السموات سمية بهذا الإسم لسموها و الفلك لإستدارته، و قالوا بأن الأفلاك تسعة، سبعة منها هي السموات السبح أدناها وأقربها الينا فلك القمر، و أما اعلى تلك و أعظمهم هو الفلك التاسع و هو العرش العظيم.
 

 النظرة التأملية للنباتات و تطورها لدى أخوان الصفا : 

تميزت رؤية إخوان الصفا بالملاحظة الدقيقة و العميقة لأحوال النباتات و تسجيلها كما هي في الواقع مع محاولة تفسيرها بمساعدة ما أتيح لهم من علم معروف في عصرهم أو بما وصلوا اليه من إجتهادات خاصة، تعريفهم للنباتات جاء بكل بساطة “ كل جسم يخرج من الأرض و بتغذى و ينمو”.

ينقسم النباتات لديهم إلى ثلاثة أنواع منها ما هي أشجار تغرس قضبانها أو عروقها، و منها ما هو زروع تبذر حبوبها أو بذورها، و منها ما هي تتكون من أجزاء أركان الأرض إذا اختلطت و أمتزجت.

المثير أنهم كانوا يرون تقدم النباتات عن الحيوانات أي أن النباتات هي الأقدم و الأنقص و الحيوانات تليها من حيث الترتيب ثم الإنسان ثم الملائكة، و قد شرحوا سبب تقدم النباتات في قولهم “ والنباتات متقدم الكوم في الوجود على الحيوانات في الزمن، لأنه مادة لها كلها، وهيولي لصورها، غذاء لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان، و ذلك أنه يمتص رطوبات الماء، و لطائف أجزاء الأرض، ثم يحيلها إلي ذاته، و يجعل من فضائل تلك المواد و رقا و ثمارا نضيجاً، و يناول الحيوان غذاءاً صافياً، هنياً مرياً، كما تفعل الوالدة بالولد .. فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذى من الطين صرفاً، ومن التراب سفاً، فاقتضت حكمة الله تعالى أن يكون النبات واسطة بين الحيوان و الأركان حتى يتناول بعروقه لطائف الأركان و عصارتها، و يهضمها و ينضجها و يصفيها، و يتناول الحيوان لبابها و حبوبها و قشورها وورقها و ثمارها صموغها و نورها و أزهارها، لطفاً من الله تعالى بخلقه، و عناية منه لبريته، فتبارك الله أحسن الخالقين”..

و قد فسروا تنوع النباتات بالرغم من أنهم يأتون من نفس نوعية التربة و الهواء والماء و حرارة الشمس أنه لان رطوبة الماء و لطائف أجزاء الأرض اذا حصلت في عروق النباتات تغيرت و أصبحت مزيجاً لا يأتي من ذلك المزيج الا نوع معين من أنواع النباتات و هكذا. (٣)
ولما كان النبات هو اللبنة البدائية في السلسلة الغذائية التي تعتاش عليها الحيوانات، أتت فكرة نشأة الحيوان بعد استقرار نظرة إخوان الصفا عن النبات. أما عن تطور الحيوان؛ فهذا موضوع المقال القادم حتى نتناوله بشكل مفصل .

لنا لقاء .

(١) الرسالة الجامعة ١/٧٢٥ – ٥٢٧
(٢) إخوان الصفا فلسفتهم و غايتهم  صــ ٨٥.. د/ فؤاد معصوم 
(٣) رسائل إخوان الصفا : طبعة بيروت، مجلد ٢.
فكرة التطور عن فلاسفة المسلمين : مجدي عبد الحافظ صــ ٤٠