مدة القراءة

4 دقائق

أيهما أفضل لتحسين قدراتك العقلية: تدريبات المخ أم تعلُم آلة موسيقية ؟

3386 قراءة

تتعرض صناعة تدريبات تنمية العقل التي تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات للهجوم. ففي أكتوبر 2014، كتبت مجموعة تضم أكثر من 100 من علماء الأعصاب وعلماء النفس البارزين رسالة مفتوحة تحذر من أن “الادعاءات التي تشجع ألعاب تنمية العقل غالبا ما تكون مبالغ فيها وأحيانا مضللة.” في وقت سابق من هذا العام، تم تغريم شركة لوموسيتي أحد عمالقة هذا العمل 2 مليون دولار وأُجبرت على رد أموال الآلف من العملاء الذين تم خداعهم بالادعاءات الكاذبة أن منتجات الشركة تحسن القدرات العقلية العامة وتقوم بإبطاء تطور الانخفاض في القدرات العقلية المرتبط بالعمر. ووجدت مراجعة حديثة لفحص الدراسات التي تهدف إلى إظهار فوائد هذه المنتجات أن: “أدلة قليلة … أن التدريب يحسن الأداء المعرفي الإدراكى“.

في حين أن ألعاب و تطبيقات تدريب المخ قد لا ترقى إلى الضجيج بشأن تأثيرها الإيحابي، فمن المعروف جيدا أن بعض الأنشطة الأخرى وخيارات نمط الحياة يمكن أن يكون لها فوائد عصبية و التي تعزز صحة المخ بشكل عام، ويمكن أن تساعد على إبقاء العقل حاداً مع التقدم في السن. واحدة من هذه الأنشطة هي التدريب الموسيقي. وتبين الأبحاث أن تعلم العزف على آلة موسيقية مفيد للأطفال والكبار على حد سواء، وربما تكون أيضاً مفيدة للمرضى الذين يتعافون من إصابات المخ.

وتقول كاثرين لوفيداي من جامعة وستمنستر: “ربما تفعل الموسيقى شيئاً فريداً، فإنها تحفز الدماغ بطريقة قوية جداً، بسبب إرتباطنا العاطفي بها.” إن العزف على آلة موسيقية هو تجربة غنية ومعقدة تتتضمن دمج المعلومات من حواس الرؤية والسمع واللمس، وكذلك الحركات الدقيقة، وتعلم القيام بذلك يمكن أن يحدث تغييرات طويلة الأمد في المخ. الموسيقيين المحترفين هم ذوي المهارات العالية الذين يمضون سنوات من التدريب، و يوفرون المختبر الطبيعي الذي يمكن لعلماء الأعصاب أن يدرسوا فيه كيف تحدث مثل هذه التغييرات عبر حياتهم والتى يُشار اليها ب “experience-dependent plasticity“.

التغيرات في بنية المخ:

كشفت دراسات مسح المخ فروقاً كبيرة في بنية المخ بين الموسيقيين وغير الموسيقيين من نفس العمر. و على سبيل المثال، فإن “corpus callosum”، وهو حزمة ضخمة من الألياف العصبية التي تربط بين جانبي المخ، هو أكبر بكثير لدى الموسيقيين. و أيضاً مناطق الدماغ المشاركة في الحركة، والسمع، وقدرات ادراك اللأشياء والأماكن تبدو أكبر لدى عازفى البيانو المحترفين، و المنطقة المخصصة لمعالجة أحاسيس اللمس من اليد اليسرى تزداد لدى عازفي الكمان.

قارنت هذه الدراسات البيانات من مجموعات مختلفة من الناس في وقت واحد. على هذا النحو، لم يتمكنوا من تحديد ما إذا كانت الاختلافات الملحوظة كانت ناجمة فعلياً عن التدريب الموسيقي، أو إذا كانت الاختلافات التشريحية القائمة تهيئ بعضهم ليصبحوا موسيقيين. ولكن فيما بعد ذلك، أظهرت الدراسات الطولية التي تتبع الناس مع مرور الوقت أن الأطفال الصغار الذين يمارسون 14 شهراً من التدريب الموسيقي تظهر لديهم تغييرات دماغية هيكلية و وظيفية مقارنة مع أولئك الذين لا يفعلون ذلك.

وتظهر كل هذه الدراسات أن تعلم العزف على آلة موسيقية لا يزيد فقط من حجم المادة الرمادية في مناطق الدماغ المختلفة، بل يمكن أيضا أن يعزز الروابط البعيدة المدى بينهم. وأظهرت أبحاث أخرى أن التدريب الموسيقي يعزز أيضا الذاكرة اللفظية، والإدراك المكاني، ومهارات القراءة والكتابة، بحيث يتفوق الموسيقيين المحترفين عادةً على غير الموسيقيين في هذه القدرات.

فوائد طويلة الأمد للموسيقيين:

الأهم من ذلك، دراسات مسح المُخ تبين أن مدى التغيير التشريحي في أدمغة الموسيقيين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسن الذي بدأ فيه التدريب الموسيقي، وكثافة التدريب. فأولئك الذين بدأوا التدريب في سن أصغر ظهرت عليهم تغييرات أكبر بالمقارنة مع غير الموسيقيين.حتى فترات قصيرة من التدريب الموسيقي في مرحلة الطفولة المبكرة يمكن أن يكون لها فوائد طويلة الأمد. ففي دراسة أجريت في عام 2013، على سبيل المثال، قام الباحثون بإشراك 44 من كبار السن وقسموهم إلى ثلاث مجموعات على أساس مستوى التدريب الموسيقي  الذي تلقوه كأطفال. لم يتلق المشاركون في إحدى المجموعات أي تدريب على الإطلاق؛ و أولئك الذين كانوا في المجموعة الثانية قد قاموا بتدريب قليل، عُرف بأنه ما بين سنة وثلاث سنوات من الدروس؛ وتلقى أولئك الذين  في المجموعة الثالثة مستويات معتدلة من التدريب (من أربعة إلى 14 سنة).عرض الباحثون للمشاركين تسجيلات لأصوات كلامية معقدة ، واستخدموا أقطاب الرأس لقياس توقيت الاستجابات العصبية في جزء من الدماغ مسئول عن السمع، مع تقدمنا في السن، تتدهور دقة هذا التوقيت، مما يجعل من الصعب فهم الكلام، وخاصة في البيئات التي تحتوي على الكثير من الضوضاء. أظهر المشاركون الذين تلقوا كميات معتدلة من التدريب الموسيقي أسرع الاستجابات العصبية، مما يشير إلى أن حتى التدريب المحدود في مرحلة الطفولة يمكن أن يحافظ على معالجة حادة لأصوات الكلام وزيادة القدرة على التكيف مع إنخفاض السمع المرتبط بالعمر.و في الآونة الأخيرة، أصبح من الواضح أن التدريب الموسيقي يسهل إعادة تأهيل المرضى المتعافين من السكتة الدماغية وغيرها من أشكال تلف المخ، وبعض الباحثين يتجادلون الآن أنه قد يعزز أيضا معالجة الكلام والتعلم لدى الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة وغيرها من إعاقات اللغة. و ما هو أكثر من ذلك، يبدو أن فوائد التدريب الموسيقي تستمر لسنوات عديدة، أو حتى عقود، والصورة التي تخرج من كل هذا الدليل هي أن تعلم العزف على آلة موسيقية في مرحلة الطفولة يحمي المخ ضد تطور الضعف الإدراكي والخرف.على عكس المنتجات التجارية للتدريب المخ، والتي فقط تحسن أداء المهارات المعنية، فإن التدريب الموسيقي لديه ما يشير إليه علماء النفس بآثار نقل – وبعبارة أخرى، تعلم العزف على آلة موسيقية يبدو أن يكون له تأثير أوسع بكثير على المخ والوظيفة العقلية، ويحسن القدرات الأخرى التي تبدو ليست ذات صلة.

يقول لوفيداى: “الموسيقى تصل إلى أجزاء من المخ و التي لا يمكن لأشياء أخرى أن تصل لها، إنها حافز معرفي قوي ينمي المخ بطريقة لا يقدر شيء آخر على فعلها، والدليل على أن التدريب الموسيقي يعزز أشياء مثل الذاكرة العاملة واللغة قوية جداً.”

و من ثَم، فإن تعلم العزف على آلة موسيقية يبدو واحداً من الأشكال الأكثر فعالية من تدريب المخ. يمكن أن يؤدي التدريب الموسيقي إلى تغييرات هيكلية ووظيفية مختلفة في المخ، اعتمادا على الآلة التي يتم تعلمها، وكثافة نظام التدريب. و هذا مثال على كيف يمكن لتجربة حياتية طويلة أن تغير من المخ بحيث تتكيف مع خصوصيات أسلوب حياة مالكها.